في كل دول العالم، تُعد المحاكم الدستورية والاتحادية صمّام الأمان القانوني، ومرجعية لا تقبل الجدل، ترسم الحدود بين السلطات وتحمي حقوق المواطنين من تجاوزات السلطة. إلا في العراق، حيث تحولت المحكمة الاتحادية إلى “قرارات على الطلب”؛ بلا أساس قانوني واضح، بلا قانون ينظم عملها، وبقرارات متضاربة لا يعرف العراقي إن كان يضحك عليها أم يبكي!
محكمة بدون قانون.. مهزلة دستورية بامتياز
من المفارقات العراقية العجيبة أن المحكمة الاتحادية، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، تعمل منذ سنوات دون قانونٍ ثابت يحدد صلاحياتها وآليات اتخاذ قراراتها. كل دول العالم تعتمد على محاكم دستورية تستمد شرعيتها من قوانين واضحة، بينما في العراق، المحكمة تعمل وفق اجتهادات سياسية، وتأويلات متغيرة، وقوانين مؤقتة لم تُحسم منذ عام 2005!
لقد أصبحت قرارات المحكمة الاتحادية أشبه بالأحجيات، تثير الجدل أكثر مما تحسم النزاعات، وتتبدل تفسيراتها وفق الأهواء السياسية لا وفق نصوص قانونية صريحة. كيف لمحكمة يُفترض أنها الضامن للدستور أن تكون أكثر المؤسسات العراقية غموضًا وتخبطًا؟

القضاء في خدمة السياسة.. والنتيجة فوضى دستورية
بدل أن تكون المحكمة الاتحادية جهة قانونية محايدة، أصبحت في كثير من الأحيان ساحةً للصراعات السياسية، تُصدر قرارات وفق مصالح الجهات المتنفذة، وتُستخدم كورقة ضغط في الخلافات بين الأحزاب المتصارعة. وعندما تغيب المعايير القانونية الواضحة، يصبح القرار القضائي مجرد أداة بيد من يملك النفوذ الأقوى.
كم من مرة أصدرت المحكمة قرارات متناقضة؟ وكم من مرة أحدثت قراراتها أزمات أكثر مما حلتها؟ من تأجيل الانتخابات، إلى تعطيل تشريعات مفصلية، إلى التدخل في قضايا سياسية بحتة لا علاقة لها بالدستور، تبدو المحكمة وكأنها تمارس دورًا أشبه بـ”الحَكم” بين القوى السياسية، لا دور القاضي الذي يستند إلى القانون والعدالة.
التأجيل.. التأجيل.. ثم التأجيل!
واحدة من أكبر الفضائح القانونية أن العراق، وبعد 20 عامًا من سقوط النظام البائد، لا يزال عاجزًا عن تشريع قانون ينظم عمل المحكمة الاتحادية!
وكلما اشتدت الأزمات، تلجأ القوى السياسية للمحكمة الاتحادية، لتستخدمها كساحة تصفية حسابات بدل أن تكون جهة قضائية مستقلة.
كلما اقترب البرلمان من تمرير القانون، تظهر الخلافات السياسية وتعرقله.
كل كتلة سياسية تريد قانونًا مفصلًا على مقاسها، يضمن لها النفوذ والتأثير في قرارات المحكمة.

هل نحن أمام “محكمة أم مجلس شورى سياسي”؟
لا يمكن لأي دولة أن تستقر دستوريًا دون وجود محكمة عليا تحكمها القوانين لا المصالح. لكن في العراق، تحولت المحكمة الاتحادية إلى مجلس استشاري للطبقة السياسية، لا جهة قانونية حقيقية.
إن استمرار هذا الوضع يعني أننا أمام حالة فوضى قانونية دائمة، حيث لا أحد يثق بقرارات المحكمة، ولا أحد يفهم حدود صلاحياتها، ولا أحد يعلم إن كان القانون يُطبّق أم يُستخدم كسلاح سياسي ضد الخصوم.
الحل؟ قانون واضح.. أو حل المحكمة بالكامل
إذا كان العراق جادًا في بناء دولة القانون، فلا يمكن أن تبقى المحكمة الاتحادية بلا إطار قانوني واضح يحكم عملها. الحل الوحيد هو:
- تشريع قانون محكمة اتحادية حديث، يحدد مهامها، ويمنع تدخل السياسة في قراراتها.
- إعادة هيكلة المحكمة بالكامل، لضمان استقلالها عن الأحزاب والتأثيرات الخارجية.
- وضع آليات رقابة تمنع إصدار قرارات متضاربة تتسبب في مزيد من الفوضى الدستورية.
أما إذا بقيت الأمور كما هي، فالأفضل حل هذه المحكمة بالكامل، لأنها بدل أن تكون صمّام الأمان الدستوري، أصبحت صاعقًا يشعل الأزمات كلما لزم الأمر.
ختامًا: دولة بلا قانون، ومحكمة بلا قانون، فمن يحكم إذن؟
حين تفقد المحكمة الاتحادية هيبتها، ويصبح قرارها محل شك وتساؤل، فهذا يعني أن الدولة كلها في خطر. لا يمكن بناء نظام ديمقراطي حقيقي دون قضاء مستقل، ولا يمكن تحقيق العدالة إذا كانت أعلى سلطة قضائية تعمل في “الشوربة القانونية” التي نعيشها اليوم.
العراق يستحق محكمة حقيقية، لا مجرد هيئة تكتب قراراتها وفق إملاءات السياسة، ثم تترك المواطن ليحتار بين تفسيرها وتأثيرها على مستقبله وفي أي دولة تحترم مؤسساتها، تُعتبر المحكمة الاتحادية الضامن الأعلى للدستور، والسد الأخير في وجه التجاوزات القانونية، والحَكم العادل بين السلطات. لكن في العراق، حيث الفوضى السياسية أصبحت نهجًا، تحولت المحكمة الاتحادية من “حامي الدستور” إلى “متقلب الدستور”، تصدر قراراتها مرة بالاجتهاد، ومرة بالضغوط، ومرة بالمزاج!
كيف لمحكمة يفترض أنها الركيزة الدستورية الأساسية أن تعمل منذ 2005 دون قانون ينظم صلاحياتها بشكل واضح؟ كيف لمحكمة يُفترض أنها تفصل في النزاعات الدستورية أن تكون هي نفسها محل نزاع دائم، لا يُعرف إن كانت مستقلة فعلًا أم مجرد أداة سياسية تُستخدم عند الحاجة؟!
بحسب المادة (93) من الدستور العراقي لعام 2005، فإن المحكمة الاتحادية تمتلك اختصاصات مصيرية، تُحدد شكل الدولة وتوازن السلطات، مثل:
- الرقابة على دستورية القوانين، لكنها بنفسها تعمل خارج إطار قانون واضح ينظم عملها!
- تفسير الدستور، لكنها أحيانًا تُناقض تفسيرها السابق وتُعيد تأويل النصوص حسب الوضع السياسي!
- الفصل في القضايا الناشئة عن تطبيق القوانين الاتحادية، لكنها في بعض الملفات تتحول إلى جزء من المشكلة بدل أن تكون جزءًا من الحل!
- الفصل في النزاعات بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات، لكنها في أحيان كثيرة تزيد الخلافات تعقيدًا بدلاً من حلّها!
- الفصل في اتهامات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء، ولكن هل رأينا محاسبة حقيقية لأحد؟!
- المصادقة على نتائج الانتخابات، ولكن هل أصبحت الانتخابات أكثر نزاهة واستقرارًا بعد قرارات المحكمة؟ أم أنها زادت الفوضى والطعن في الشرعية؟!
- الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والمحاكم في الأقاليم والمحافظات، ولكن هل المحكمة قادرة على فرض قراراتها عندما تتعارض مع المصالح السياسية؟!
إذا كانت هذه صلاحيات المحكمة، وإذا كان الدستور يمنحها هذه السلطة العظمى، فلماذا نجدها عاجزة عن تحقيق العدالة الدستورية؟ لماذا قراراتها متضاربة؟ لماذا تحولت إلى ساحة صراعات سياسية بدل أن تكون الحَكم العادل بين السلطات؟ ولماذا تعمل منذ 20 عامًا بلا قانون ثابت ينظم عملها؟!
هل يمكن أن نأخذ قرارات المحكمة الاتحادية على محمل الجدّ وهي نفسها لا تملك قانونًا يحدد صلاحياتها بوضوح؟! كيف تراقب دستورية القوانين وهي تعمل بلا قانون؟! كيف تفرض سيادة الدستور وهي تفسّره بطريقة متغيرة حسب الظروف؟!
العراق يستحق محكمة اتحادية حقيقية، لا محكمة تقرأ الدستور كما يُملى عليها! فإلى متى تبقى المحكمة في هذه الفوضى؟!
